*********************************
قصة قصيرة
" ليس الوجع في أيام الفقد ..
بل .. في أيام العيد ... "
استطردت وهي تجمع الحروف لتواسيها ، ثم اردفت ؛ " و تلك هي المأساة عزيزتي.. أن تري كل الناس في بهجة و سرور، و أنت في دنيا أخرى غير تلك التي العيد يزينها .. بل أنت في تفاصيل من الحزن تنسجين ألوانا من الشجن و الأسى ، لكن رب الوجود موجود و مازال بالخير يجود ..إن شاء الله تكون بهذا العيد آخر الأحزان.. و بداية أفراح .. "
كانت الكلمات تتزاحم و تتدافع لتخرج كنار من فوهة بركان ، ما كانت لتريح بالها أو تخفف من حدة ألمها ، بل كأن البركان قابع بأغوار روحها يرفض الإنفجار أو الإنعتاق ، فيربض بثنايا القلب ، يحتدم مع تدفق دمائها فيشكل عقدة لجمت لسانها و أصمت أذنيها . كانت كلمات والدتها إليها تضيع في أرجاء جدران الغرفة فلا تحرك فيها ساكنا .. كأن بها صمم أو كأن روحها ترفض الجسد كساء بعد فجيعتها في توأم روحها ..
" — إملائي قلبك بالصبر و الإيمان ، فوالله لا يضيع أجر من تسلح بالصبر .. احتسبي مأساتك عند الله.. فما هذه الدنيا إلا متاع الغرور ، فانيه.. و جزاء الصابرين أعظم جزاء.."
تفتح عينين ذابلتين ، تحملق في وجه والدتها أن "ارحموني من مواعيضكم ...!! "
ثم تتسلل إلى غرفة نومها ، تفتح خزانة الملابس ، تمسك ببعض منها معلقة بانتظام ، تقربها من أنفها ، تستنشق العطر .. مازالت بقايا من رائحته ،" آه يا ربي .. كيف أحافظ على ما تبقى من عبقها و طيب شذاها ؟ كيف يا رب ، حتى إذا ما كبرت تلك الفتاتين القابعتين بذاك الركن ، أن تنعما بريح والدهما ، يستنشقان طعم الأبوة ، يكحلان ناظريهما بصورته ...!! "
ثم تستفيق على صوت إبنتها الكبرى تقفز و تتعثر بالكلام ، تردد في زهو : " أبي مات و تبتسم ، أبي مات ثم تقفز على قدم واحدة ؛ لعبة أتقنتها حديثا ، فتقفز بفرحة على قدم و تترك القدم الأخرى مرتفعة و لا تنفك تردد في أذن أختها الرضيعة " مات أبي " .. فقد كافأها جمهور المعزين يوم الدفن بقطع السكاكر عند كل قفزة ترافق حديثها الصغير ..
تعود إلى عالمها بين كوم الملابس ،تذرف دمعة و دمعتين وهي تستنشق عطرها بينما تمعن النظر في ذينك الملاكين يتغازلان بموت أب تتغنى به الكبرى فلا تفقه حديثها اختها الرضيعة ، لكنها مع ذلك تبادلها ابتسامة ، مبهمة .. صغيرة ماتزال لا تفقه كنه الحياة و ما جلبه إليها المماة وهي لا تزال بالمهد ..
ثم تجهش بكاءا و تخر على بلاط الأرض و قد وهن عودها و مازالت تحلم أنه قد يفتح الباب ليطل كعادته ، قبل أن يعرج حيث الرضيعة تنام ، فيحدث صفيرا بين شفتيه و أسنانه ، تعودت على سماعه ، فتنتفض سرورا و تدير رأسها نحو الباب مباشرة لتصير ابتسامتها وقع موسيقى عذبة تماما كتلك الابتسامات ساحرة الإيقاع التي تنبعث من حناجر الرضع .. و في الآن ذاته يرتفع صوت خائر أجش من حنجرة أم شابة بعمر الأحلام ، صوت أوهنه الصوم فزاده الألم مرارة و عزوفا عن سد رمق حتى عند الآذان و بعده ، لما تجتمع العائلة للإفطار في جو قاتم ، ثقيل ، يشي بغدر القدر و استيلاءه على لحظات سعادة لم تدم أكثر من سنين معدودات تلتها أخرى عجاف هاهي تقبل بوحشية ..
موعد الآذان على وشك ، و الأخ الأكبر قدم مع زوجته . فمنذ رحلت الجثة و افترشت الأرض و سافرت الروح في طريقها إلى بارئها ؛ إلى من أهداها الحياة لحين ثم أمسكها بحلول قدرها ، صار أخواها يلازمانها في وحدتها ..
لكنها ، كانت تنسحب على الدوام لتختلي بنفسها ، بطيب العطر تارة و بالأحاديث تعيدها إلى مسامعها لحظات الانسجام و الخروج عن ذي عالم ..
وصل أخوها الأصغر ، اقترب من باب الغرفة ، ولج ببطئ حتى لا يفسد خلوة عائلية منقوصة .. فما إن سمعت الرضيعة صرير الباب يفتح بتؤدة حتى أدارت وجهها و انشرحت أسارير وجهها و ارتسمت ابتسامة عريضة و عيناها مثبتتين تجاه الباب لتطلق إيقاعات موسيقية عذبة ساحرة ، تتخللها رقصات بيديها الصغيرتين كطائر صغير يرفرف بجناحيه ولا يطير .. ثم المفاجأة ؛ تناغي و تشكل حرفا تكرره مرتين " با .. با .. .."
رفعت الأم رأسها ، تركت كوم الملابس يسقط من يدها :
— حبيبتي .. أول مرة تنطقين بها .. آه .... آ آآآه .... و تضمها لتشبعها قبلات .
— يا روحي أنت.. يا روح خالو ... حسبتني والدها ، رحمه الله ..!!
الجزء - 1 -
يتبع
*********************************
*********************************
« العقد الذهبي »
*********************************
— حبيبتي .. أول مرة تنطقين بها .. آه .... آ آآآه .... و تضمها لتشبعها قبلات .
— يا روحي أنت.. يا روح خالو .. ، حسبتني والدها ...!
فقد مضت أيام لم تر خلالها ذاك المحيا رجولي السمات و التقاسيم ، يقف أمامها كما عودها ، فيناغيها و يصفر لها لحنا مميزا قبل أن يلاعبها عند كل عودة من العمل ... ، صارت تبحث بصمت عن تلك الملامح المختلفة عن ملامح أمها و أختها ، صارت تدقق بكل الوجوه علها تعثر على صورة لم تستطع ، قصد إيجادها ، التعبير عن مطلبها ، فكانت حركتها تلك تعيدها كلما رأت رجلا أو مثل أمامها ، و تنطق « با .. با »
تشعر بالأسى لحال ابنتها ،ثم ، تلتحق شاحبة متكاسلة بوالدتها ، بالمطبخ ، لتجلس بركن ، شاردة على الدوام ، تنتظر موعد الإفطار ، لكن لا وعود أكيدة لمعدة خاوية آنست الجوع بالليل كما بالنهار ، فكان صيامها استمرارية تتخللها شهقات أو دمعات تسيل بصمت حتى لا تزيد من قلق العائلة عليها . ثم ، تعود لتحضن ابنتها و تسلمها لزوجة أخيها ، فقد تعودت تعدد الأحضان بغياب حضن كان يضمها و يلهيها ليحمل أختها الكبرى على كتفيه و يجول بها صحن الدار بانتظار الآذان للإفطار سويا ..
تعود إلى ركنها بالمطبخ ، تتجول عيناها على أطباق الأطعمة ، ثم ، تجهش بكاء لما ترمق كيسا بيد أخيها يحوي غلالا للفصل الجديد ؛ عنبا ...!!
سمع دوي المدفع ، ثلاث طلقات قبل أن يصدح المؤذن معلنا نهاية الصوم ، .. تمتد الأياد لتلتقط ما لذ و طاب قبل الشروع في الصلاة .. يمد لها والدها حبة عنب ، .. تمتنع ، ترفض قائلة " أول مرة بهذا الفصل أرى العنب ،، لم يأكل منه ، لم نشتر بعد عنبا لما كان معنا ، فموسم هذه الفاكهة لم يحن آنذاك ...!! شعرت بألم يعتمل بضلوعها و كأنها خيانة منها لو تذوقت عنبا لم يطعمه و لم ينعم بمذاقه .. !!
تنهرها الأصوات متزاحمة " كلي ، لا تعذبي نفسك أكثر مما هي عليه !!
فتلتهم حبة العنب و لا أحد يدرك مدى إحساسها بالشبع رغم صيام يوم كامل ، بل و أيام متتالية ، فيعاودها صوت والدها :
— لقد سافر زوجك عن دنيا الشقاء، و ذهب إلى الرفيق الأعلى ، و جزاءه نرجو أن يكون خير جزاء ، يومها سيكون الناس في شأن عظيم و منهم من يكون كتابه بيمينه.. إسألي الله ألا يعطيك كتابك بشمالك..يا .. ابنتي .. فأصحاب الشمال في ضنك ، و بئس المصير...
تضيف والدتها :
— هل تدرين بمن شبههم الله عز و جل يا عزيزتي ؟؟
شبههم بك ... بالأرملة ، بالثكلى ، باليتيم بكل من فقد عزيزا أو حبيبا ، أختا أو أخا ، ... يا من دمعتك ما تزال على الخد تسيل بهذه الأيام و العيد على الأبواب بينما الناس في أبهى الحلل مستبشرون ..!!
نعم يقول المولى سبحانه إن إحساس أهل النار يوم القيامة و هم يجرون إلى العذاب كإحساس من له قريب متوفى في يوم العيد ، حزين و الناس مستبشرون ... الله يعرف شعورنا في مثل هذا اليوم.. شعور مخالف لمشاعر باقي الناس..."
كأن صدى الكلمات يخترق أذنها و لا يستقر بأعماقها ، فعالمها غير عالمهم ، كانوا يسارعون في نسق الحديث و الأكل ، يبتسمون مرات و يصمتون مرات أخرى . لكنها لا تتفاعل ، تكتفي بابتسامات شاحبة كلونها ، ثم تعلن حاجتها للراحة ، فلا يسمح لها هذه المرة ؛
— " احمدي الله أننا من يحزنون في هذه الدنيا و لسنا من يحزنون بالآخرة .." أضافت الأم و ملء عينيها الأسى على ابنتها تراها تذبل يوما بعد يوم و هي لا تزال بمقتبل العمر .. ثم استطردت " فتلك هي المصيبة الكبرى.. يا ابنتي ، أعاذنا الله منها.. و رزقنا جميل الصبر على هذه المصيبة الصغرى... "
لا تأبه لكلامهم ؛ " هراء ما يقولون ، لو ذاقوا لوعة الفراق لادخروا نصائحهم و ما ألقوها بوجهي مجانا ..!! " ، تردد في سرها ، ثم ، تغمض جفنيها ، تدعوه لأحلامها لتواصل معه مسامرات سهرة رمضانية ، .....فالله وحده يدرك شعورها بأيام رمضان و العيد أوشك أن يهل ، فأيام معدودات ...
فجأة ، تلمحه قادما من بعيد ، .. يلوح لها ، يبتسم ، ثم يقترب أكثر كإصبعين بكف ، تفرح هي ، تعيش لحظات سعادة مسروقة ، أو ربما هي مهداة إليها من السماء ، تنظر إلى عينيه ، يضع قلادة ذهبية تحت حنفية الماء ينسكب رقراقا ، ثم يضعها برقبتها ، تضع يدها بيده ، يستدير ليعود من حيث أتى ...
— " تمهل ! " همست إليه .
— " لابد أن أعود " ، يبتسم بدفء ، ثم يذهب و يدها ماتزال عالقة بيده ، لم تجرؤ أن تجبره على البقاء .. تابعت خطواته وهو يبتعد ..
جاء لزيارتها ، كأنما أدرك أنه رحل مبكرا أو غادر على استعجال و على حين غرة .. لكن ، وعدها أن يعود ، أن يزورها من حين لآخر ، ..
ارتسمت بسمات على ثغرها ، هل تراه استمع لنداء روحها ، فأقبل يسعى ..!!
و أقبلت في الأثناء زوجة أخيها تسعى ؛ " أ لم تشربي قهوتك ..؟؟؟ "
انتبهت من نومها ، شرعت في احتساء القهوة .. و رفعت يدها تبحث عن العقد الذهبي وضعه للتو برقبتها ..!!
تمت .
******************************************************************
قصة قصيرة
بعنوان :
« العقد الذهبي. »
الجزء - 1 -
بقلم : بسمة الحاج يحيی / تونس
************•********************
" ليس الوجع في أيام الفقد ..
بل .. في أيام العيد ... "
استطردت وهي تجمع الحروف لتواسيها ، ثم اردفت ؛ " و تلك هي المأساة عزيزتي.. أن تري كل الناس في بهجة و سرور، و أنت في دنيا أخرى غير تلك التي العيد يزينها .. بل أنت في تفاصيل من الحزن تنسجين ألوانا من الشجن و الأسى ، لكن رب الوجود موجود و مازال بالخير يجود ..إن شاء الله تكون بهذا العيد آخر الأحزان.. و بداية أفراح .. "
كانت الكلمات تتزاحم و تتدافع لتخرج كنار من فوهة بركان ، ما كانت لتريح بالها أو تخفف من حدة ألمها ، بل كأن البركان قابع بأغوار روحها يرفض الإنفجار أو الإنعتاق ، فيربض بثنايا القلب ، يحتدم مع تدفق دمائها فيشكل عقدة لجمت لسانها و أصمت أذنيها . كانت كلمات والدتها إليها تضيع في أرجاء جدران الغرفة فلا تحرك فيها ساكنا .. كأن بها صمم أو كأن روحها ترفض الجسد كساء بعد فجيعتها في توأم روحها ..
" — إملائي قلبك بالصبر و الإيمان ، فوالله لا يضيع أجر من تسلح بالصبر .. احتسبي مأساتك عند الله.. فما هذه الدنيا إلا متاع الغرور ، فانيه.. و جزاء الصابرين أعظم جزاء.."
تفتح عينين ذابلتين ، تحملق في وجه والدتها أن "ارحموني من مواعيضكم ...!! "
ثم تتسلل إلى غرفة نومها ، تفتح خزانة الملابس ، تمسك ببعض منها معلقة بانتظام ، تقربها من أنفها ، تستنشق العطر .. مازالت بقايا من رائحته ،" آه يا ربي .. كيف أحافظ على ما تبقى من عبقها و طيب شذاها ؟ كيف يا رب ، حتى إذا ما كبرت تلك الفتاتين القابعتين بذاك الركن ، أن تنعما بريح والدهما ، يستنشقان طعم الأبوة ، يكحلان ناظريهما بصورته ...!! "
ثم تستفيق على صوت إبنتها الكبرى تقفز و تتعثر بالكلام ، تردد في زهو : " أبي مات و تبتسم ، أبي مات ثم تقفز على قدم واحدة ؛ لعبة أتقنتها حديثا ، فتقفز بفرحة على قدم و تترك القدم الأخرى مرتفعة و لا تنفك تردد في أذن أختها الرضيعة " مات أبي " .. فقد كافأها جمهور المعزين يوم الدفن بقطع السكاكر عند كل قفزة ترافق حديثها الصغير ..
تعود إلى عالمها بين كوم الملابس ،تذرف دمعة و دمعتين وهي تستنشق عطرها بينما تمعن النظر في ذينك الملاكين يتغازلان بموت أب تتغنى به الكبرى فلا تفقه حديثها اختها الرضيعة ، لكنها مع ذلك تبادلها ابتسامة ، مبهمة .. صغيرة ماتزال لا تفقه كنه الحياة و ما جلبه إليها المماة وهي لا تزال بالمهد ..
ثم تجهش بكاءا و تخر على بلاط الأرض و قد وهن عودها و مازالت تحلم أنه قد يفتح الباب ليطل كعادته ، قبل أن يعرج حيث الرضيعة تنام ، فيحدث صفيرا بين شفتيه و أسنانه ، تعودت على سماعه ، فتنتفض سرورا و تدير رأسها نحو الباب مباشرة لتصير ابتسامتها وقع موسيقى عذبة تماما كتلك الابتسامات ساحرة الإيقاع التي تنبعث من حناجر الرضع .. و في الآن ذاته يرتفع صوت خائر أجش من حنجرة أم شابة بعمر الأحلام ، صوت أوهنه الصوم فزاده الألم مرارة و عزوفا عن سد رمق حتى عند الآذان و بعده ، لما تجتمع العائلة للإفطار في جو قاتم ، ثقيل ، يشي بغدر القدر و استيلاءه على لحظات سعادة لم تدم أكثر من سنين معدودات تلتها أخرى عجاف هاهي تقبل بوحشية ..
موعد الآذان على وشك ، و الأخ الأكبر قدم مع زوجته . فمنذ رحلت الجثة و افترشت الأرض و سافرت الروح في طريقها إلى بارئها ؛ إلى من أهداها الحياة لحين ثم أمسكها بحلول قدرها ، صار أخواها يلازمانها في وحدتها ..
لكنها ، كانت تنسحب على الدوام لتختلي بنفسها ، بطيب العطر تارة و بالأحاديث تعيدها إلى مسامعها لحظات الانسجام و الخروج عن ذي عالم ..
وصل أخوها الأصغر ، اقترب من باب الغرفة ، ولج ببطئ حتى لا يفسد خلوة عائلية منقوصة .. فما إن سمعت الرضيعة صرير الباب يفتح بتؤدة حتى أدارت وجهها و انشرحت أسارير وجهها و ارتسمت ابتسامة عريضة و عيناها مثبتتين تجاه الباب لتطلق إيقاعات موسيقية عذبة ساحرة ، تتخللها رقصات بيديها الصغيرتين كطائر صغير يرفرف بجناحيه ولا يطير .. ثم المفاجأة ؛ تناغي و تشكل حرفا تكرره مرتين " با .. با .. .."
رفعت الأم رأسها ، تركت كوم الملابس يسقط من يدها :
— حبيبتي .. أول مرة تنطقين بها .. آه .... آ آآآه .... و تضمها لتشبعها قبلات .
— يا روحي أنت.. يا روح خالو ... حسبتني والدها ، رحمه الله ..!!
الجزء - 1 -
يتبع
*********************************
*********************************
« العقد الذهبي »
الجزء - 2 -
بقلم : بسمة الحاج يحيی / تونس
— حبيبتي .. أول مرة تنطقين بها .. آه .... آ آآآه .... و تضمها لتشبعها قبلات .
— يا روحي أنت.. يا روح خالو .. ، حسبتني والدها ...!
فقد مضت أيام لم تر خلالها ذاك المحيا رجولي السمات و التقاسيم ، يقف أمامها كما عودها ، فيناغيها و يصفر لها لحنا مميزا قبل أن يلاعبها عند كل عودة من العمل ... ، صارت تبحث بصمت عن تلك الملامح المختلفة عن ملامح أمها و أختها ، صارت تدقق بكل الوجوه علها تعثر على صورة لم تستطع ، قصد إيجادها ، التعبير عن مطلبها ، فكانت حركتها تلك تعيدها كلما رأت رجلا أو مثل أمامها ، و تنطق « با .. با »
تشعر بالأسى لحال ابنتها ،ثم ، تلتحق شاحبة متكاسلة بوالدتها ، بالمطبخ ، لتجلس بركن ، شاردة على الدوام ، تنتظر موعد الإفطار ، لكن لا وعود أكيدة لمعدة خاوية آنست الجوع بالليل كما بالنهار ، فكان صيامها استمرارية تتخللها شهقات أو دمعات تسيل بصمت حتى لا تزيد من قلق العائلة عليها . ثم ، تعود لتحضن ابنتها و تسلمها لزوجة أخيها ، فقد تعودت تعدد الأحضان بغياب حضن كان يضمها و يلهيها ليحمل أختها الكبرى على كتفيه و يجول بها صحن الدار بانتظار الآذان للإفطار سويا ..
تعود إلى ركنها بالمطبخ ، تتجول عيناها على أطباق الأطعمة ، ثم ، تجهش بكاء لما ترمق كيسا بيد أخيها يحوي غلالا للفصل الجديد ؛ عنبا ...!!
سمع دوي المدفع ، ثلاث طلقات قبل أن يصدح المؤذن معلنا نهاية الصوم ، .. تمتد الأياد لتلتقط ما لذ و طاب قبل الشروع في الصلاة .. يمد لها والدها حبة عنب ، .. تمتنع ، ترفض قائلة " أول مرة بهذا الفصل أرى العنب ،، لم يأكل منه ، لم نشتر بعد عنبا لما كان معنا ، فموسم هذه الفاكهة لم يحن آنذاك ...!! شعرت بألم يعتمل بضلوعها و كأنها خيانة منها لو تذوقت عنبا لم يطعمه و لم ينعم بمذاقه .. !!
تنهرها الأصوات متزاحمة " كلي ، لا تعذبي نفسك أكثر مما هي عليه !!
فتلتهم حبة العنب و لا أحد يدرك مدى إحساسها بالشبع رغم صيام يوم كامل ، بل و أيام متتالية ، فيعاودها صوت والدها :
— لقد سافر زوجك عن دنيا الشقاء، و ذهب إلى الرفيق الأعلى ، و جزاءه نرجو أن يكون خير جزاء ، يومها سيكون الناس في شأن عظيم و منهم من يكون كتابه بيمينه.. إسألي الله ألا يعطيك كتابك بشمالك..يا .. ابنتي .. فأصحاب الشمال في ضنك ، و بئس المصير...
تضيف والدتها :
— هل تدرين بمن شبههم الله عز و جل يا عزيزتي ؟؟
شبههم بك ... بالأرملة ، بالثكلى ، باليتيم بكل من فقد عزيزا أو حبيبا ، أختا أو أخا ، ... يا من دمعتك ما تزال على الخد تسيل بهذه الأيام و العيد على الأبواب بينما الناس في أبهى الحلل مستبشرون ..!!
نعم يقول المولى سبحانه إن إحساس أهل النار يوم القيامة و هم يجرون إلى العذاب كإحساس من له قريب متوفى في يوم العيد ، حزين و الناس مستبشرون ... الله يعرف شعورنا في مثل هذا اليوم.. شعور مخالف لمشاعر باقي الناس..."
كأن صدى الكلمات يخترق أذنها و لا يستقر بأعماقها ، فعالمها غير عالمهم ، كانوا يسارعون في نسق الحديث و الأكل ، يبتسمون مرات و يصمتون مرات أخرى . لكنها لا تتفاعل ، تكتفي بابتسامات شاحبة كلونها ، ثم تعلن حاجتها للراحة ، فلا يسمح لها هذه المرة ؛
— " احمدي الله أننا من يحزنون في هذه الدنيا و لسنا من يحزنون بالآخرة .." أضافت الأم و ملء عينيها الأسى على ابنتها تراها تذبل يوما بعد يوم و هي لا تزال بمقتبل العمر .. ثم استطردت " فتلك هي المصيبة الكبرى.. يا ابنتي ، أعاذنا الله منها.. و رزقنا جميل الصبر على هذه المصيبة الصغرى... "
لا تأبه لكلامهم ؛ " هراء ما يقولون ، لو ذاقوا لوعة الفراق لادخروا نصائحهم و ما ألقوها بوجهي مجانا ..!! " ، تردد في سرها ، ثم ، تغمض جفنيها ، تدعوه لأحلامها لتواصل معه مسامرات سهرة رمضانية ، .....فالله وحده يدرك شعورها بأيام رمضان و العيد أوشك أن يهل ، فأيام معدودات ...
فجأة ، تلمحه قادما من بعيد ، .. يلوح لها ، يبتسم ، ثم يقترب أكثر كإصبعين بكف ، تفرح هي ، تعيش لحظات سعادة مسروقة ، أو ربما هي مهداة إليها من السماء ، تنظر إلى عينيه ، يضع قلادة ذهبية تحت حنفية الماء ينسكب رقراقا ، ثم يضعها برقبتها ، تضع يدها بيده ، يستدير ليعود من حيث أتى ...
— " تمهل ! " همست إليه .
— " لابد أن أعود " ، يبتسم بدفء ، ثم يذهب و يدها ماتزال عالقة بيده ، لم تجرؤ أن تجبره على البقاء .. تابعت خطواته وهو يبتعد ..
جاء لزيارتها ، كأنما أدرك أنه رحل مبكرا أو غادر على استعجال و على حين غرة .. لكن ، وعدها أن يعود ، أن يزورها من حين لآخر ، ..
ارتسمت بسمات على ثغرها ، هل تراه استمع لنداء روحها ، فأقبل يسعى ..!!
و أقبلت في الأثناء زوجة أخيها تسعى ؛ " أ لم تشربي قهوتك ..؟؟؟ "
انتبهت من نومها ، شرعت في احتساء القهوة .. و رفعت يدها تبحث عن العقد الذهبي وضعه للتو برقبتها ..!!
تمت .
******************************************************************
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق